فن صياغة الاستراتيجية في تجربة العميل (مع دراسة حالة)
هل تساءلت يوماً لماذا تفشل أحياناً محاولاتك الكثيرة لتحسين تجربة عملائك، رغم حماسك وجهد فريقك؟ الإجابة بكل بساطة تكمن في الاستراتيجية. فقد أثبتت دراسات عديدة أن مبادرات تجربة العميل (Customer Experience Initiatives – CX) غالباً ما تفشل لسبب رئيسي واحد: عدم ربطها بشكل صحيح وفعال باستراتيجية الشركة الكبرى، بمعنى آخر، عدم الاهتمام في صياغة الاستراتيجية في تجربة العميل.
إن مهمة أي شخص يعمل في مجال تجربة العميل (CX) تبدأ من هنا: يجب أن يكون لديه إلمام كامل بالاستراتيجية على مستوياتها المختلفة، وأن يحرص على الدمج الصحيح لرحلات العميل ضمن المنظومة التي يعمل بها. فكيف يمكننا أن ننتقل بتجربة العميل من مجرد قائمة مهام تشغيلية إلى محرك أساسي لنمو واستمرارية الأعمال؟ لنرى.
ما هي الاستراتيجية في تجربة العميل؟ ليست قائمة مهام، بل اختيارات كبرى!
عندما نتحدث عن الاستراتيجية (Strategy)، فنحن لا نتحدث عن قائمة مهام بسيطة أو مجموعة من الأنشطة اليومية. بل هي اختيارات كبرى تتناول مستقبل الشركة واستمرارية أعمالها.
نستطيع تلخيص جوهر الاستراتيجية بالإجابة على 3 أسئلة مهمة:
- أين سنكرّس جهدنا؟ (?Where are we playing)
- أين سنفوز؟ (?Where will we win)
- كيف سنوجّه مواردنا على المدى الطويل؟
إن تخصيص الموارد واستغلالها بأفضل شكل ممكن هو صلب عملية تطوير الاستراتيجيات. أما عن الرؤية فهي بمثابة نجمة الشمال التي تحدد الاتجاه الذي نسير فيه، وتجعلنا، نحن وجميع زملائنا في المؤسسة، ندرك تماماً سبب وجودنا. وإن غياب هذه الرؤية الواضحة يجعل الشركات تتخبط، مثل سفينة تبحر بلا بوصلة.
ومن هنا تظهر الحاجة إلى ما يسمى بـ الانعطاف الاستراتيجي (Strategic Inflection Point)؛ اللحظة التي تدرك فيها المؤسسة ضرورة مراجعة استراتيجيتها لتتواكب مع التغيرات المحيطة بها، قبل أن تجد نفسها خارج السوق كما حدث مع شركات عملاقة مثل نوكيا وكوداك.
إذاً، فالاستراتيجية هي التي تسأل “ماذا؟” و “لماذا؟”. أما التكتيكات، فهي التي تجيب على سؤال “كيف؟”، أي كيف سنمارس مهامنا اليومية.

عدم اليقين (Uncertainty): لماذا تزداد حاجتنا للاستراتيجية اليوم؟
نحن نعيش اليوم في عالم تتسارع فيه الوتيرة التقنية والمهنية بشكل مذهل. لقد أصبحنا غير قادرين على مواكبة كل هذا التقدم، وهذا هو السبب الرئيسي وراء حاجتنا الملحّة للاستراتيجية: التعامل مع حالة عدم اليقين (Uncertainty).
ولكن، لا تفكّر أن الاستراتيجية هي أمر جامد لا يمكن التحكم به. في الحقيقة، يجب أن تؤمن دائماً بوجود “نقطة الانعطاف الاستراتيجي (Strategic Inflection Point)” التي تكلمنا عنها سابقاً. هذا يعني أن الاستراتيجية ليست شيئاً ثابتاً بل يجب أن تظل قيد المراجعة المستمرة. ففي اللحظة التي تشعر فيها أن الشركة لا تحقق أهدافها، يجب أن تكون مستعد لإعادة تقييم المسار.
ولمواجهة هذا العالم الديناميكي المتسم بالتقلبات على مستوى كل الأصعدة، يجب أن نكون مستعدين للتكيّف الدائم. وهذا يتطلب منا أن نكون جاهزين للتعامل مع السيناريوهات المختلفة، وحتى الأحداث النادرة عالية التأثير، بما يُسمى نظرية “البجعة السوداء (Black Swan)“.

مراحل بناء الاستراتيجية في تجربة العميل
أي استراتيجية ناجحة تمر بأربع مراحل رئيسية:
- المسح البيئي (Environmental Scanning): تحليل البيئة الخارجية (Macro Scanning) لفهم السوق والاقتصاد والمنافسين، والبيئة الداخلية (Micro Scanning) لتحديد القدرات المتاحة والثغرات الموجودة.
- التقييم والتحليل (Assessment) لصياغة الاستراتيجية: طرح الأسئلة الجوهرية: لماذا نحتاج هذا التحول؟ ما التكلفة؟ ما العائد؟ وما الإمكانيات البشرية والتقنية التي نملكها؟
- التخطيط والتنفيذ (Planning & Execution): إشراك أصحاب المصلحة مبكراً في صياغة الاستراتيجية يخلق التزاماً جماعياً ويدعم التنفيذ الفعلي بدل أن تبقى الاستراتيجية “وثيقة قوية” بلا تطبيق.
- التقييم والتطوير المستمر (Evaluation & Adjustment): الاستراتيجية في تجربة العميل ليست ثابتة، بل حلقة مغلقة من التقييم والتحسين. عند فقدان المؤشرات (KPIs) أو عدم تحقيق الأهداف، يجب إعادة صياغتها فوراً.
المستويات الثلاثة لـ الاستراتيجية في تجربة العميل: من الهدف إلى التنفيذ
لفهم أهمية الاستراتيجية في تجربة العميل، يجب النظر إليها كهرم متكامل:
- استراتيجية الشركة (Corporate Strategy): هي في قمة الهرم، وتمثل الغاية أو السبب الجوهري لوجود الشركة.
- استراتيجية الأعمال (Business Strategy): وهي المستوى الذي تستخدم فيه جميع الموارد والمحفزات لترجمة غاية الشركة إلى خطة عمل.
- الاستراتيجية التشغيلية (Operational Strategy): هي مرحلة التنفيذ اليومية للخطط، والتي من خلالها يخدم كل عمل نقوم به الهدف الأسمى لوجود الشركة.
تحديات التنفيذ: لماذا قد تفشل الاستراتيجيات الرقمية في التنفيذ؟
تنفيذ الاستراتيجية يواجه تحديات معتادة وغير معتادة، أبرزها:
- غياب الموارد البشرية والبنية التحتية الجاهزة: قد لا تتوفر الكوادر المؤهلة أو البنية التحتية التقنية والفنية اللازمة للتنفيذ الفعلي.
- انفصال الاستراتيجيات عن الواقع: بعض الاستراتيجيات تُصمم في عزلة عن العمل اليومي، مما يؤدي إلى غياب التوجيه اللحظي والحاجة إلى تصحيح المسار المبكر.
- المغالطة بين التعديل الجذري والتكيّف: الخطأ الذي نرتكبه أحياناً هو اعتقادنا بأننا نحتاج إما إلى “مطرقة” (تعديل جذري)، أو لا نفعل شيء. بينما المطلوب دائماً هو التكيف المستمر والجاهزية الدائمة للتعامل مع حالة عدم اليقين.

مستشار تجربة العميل الذكي: الربط بالأداء المالي
لكي تنجح مبادرات تجربة العميل، عليك أن ترتدي قبعة المستشار الذكي وأن تفكر كرجل أعمال يهمه “الحد الأدنى للربح”. اربط كل مبادرة تقوم بها بمقاييس واضحة تؤدي إلى نتائج ملموسة في قائمة الأرباح والخسائر: هل تريد زيادة الاحتفاظ؟ تقليل تكلفة خدمتك؟ رفع معدلات الشراء؟
قبل أن تستثمر مواردك الضخمة في مبادرات مكلفة كالتحول الرقمي، اتبع الخطوات التالية:
- تحديد نتيجة واحدة: حدد نتيجة واحدة فقط ذات أهمية قصوى للشركة.
- الاختبار والقياس المبكر: قم باختبار هذه النتيجة وقياسها في فترة زمنية قصيرة (من 30 إلى 90 يوماً).
- التأكد قبل التوسع: بعد التأكد من أنك تسير على الطريق الصحيح، يمكنك حينها التوسع واستثمار مواردك الكاملة (المالية والفكرية والمادية) في تطوير رحلات العميل.

الذكاء الاصطناعي: نقطة تحول في تطوير الاستراتيجية في تجربة العميل
تخيّل أنك قادر على تطوير استراتيجيتك بجودة عالية وفي وقت قياسي! لقد أصبح الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence – AI) أداة خارقة تسرع من عملية تطوير الاستراتيجيات. ما عليك سوى جمع المدخلات النظيفة والغنية والمرتبة، وسينظم لك المخرجات.
وهو ما يميز الأنظمة الذكية الحديثة مثل منصة بيمرا (BEAMRA) التي تساعد المستشارين والمختصين في تحليل البيانات، وصياغة استراتيجيات جاهزة بضغطة زر.
كيف يساعدك الذكاء الاصطناعي في تصميم الاستراتيجية في تجربة العميل؟
- تعيين مستشار فوري: باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، يمكن لموظف CX أن يتحول إلى مستشار أعمال قادر على إنتاج استراتيجيات منظمة وفعالة.
- اختصار الوقت والجهد: هذه الأدوات تختصر وقتاً وجهداً كان يتطلبه سابقاً أشهر من العمل والاجتماعات، وتوفر عليك عملية اختيار المستشارين التقليدية.
- تصميم وتحليل رحلات العميل: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل رحلات العميل (Customer Journey)، وتحديد نقاط الألم (Pain Points)، واستقاء الملاحظات من بيانات السوق لتطوير الاستراتيجية.
اقرأ أيضاً: 13 طريقة لتحسين تجربة العميل بالذكاء الاصطناعي
دراسة حالة: “تيك تريسر” والعميل محور التجربة
“تيك تريسر (Tech Tracer)” تقدم لنا مثالاً حقيقياً على كيفية وضع تجربة العميل كـ “محور التركيز الرئيسي”. لقد استخدمت هذه المنظومة تقنيات التتبع والتسلسل الرقمي (Digital Traceability – Blockchain) لربط العميل مباشرة بالمنتج منذ لحظة إنتاجه في المصنع.
لكن ما هي تقنيات التتبع والتسلسل الرقمي؟
الفكرة بسيطة: كل منتج يُزوّد بهوية رقمية فريدة يمكن تتبعها من المصنع إلى يد العميل.

إذن كيف تُثري هذه التكنولوجيا تجربة العميل؟
عندما يقوم العميل بمسح رمز الاستجابة السريعة (QR Code)، يحصل على معلومات قيمة ومختلفة في كل مرحلة، مما يبني قصة ثقة حول المنتج:
- أصل المنتج: مصدره وتاريخ إنتاجه.
- الاستدامة والمسؤولية: شهادات عن الاستدامة وحتى اسم المصنع.
وهذا ما يحوّل المنتج من مجرد سلعة إلى تجربة متكاملة.
الفوائد الملموسة لجميع الأطراف
- للعملاء: تعزز الثقة والولاء للعلامة التجارية، ويشعر العميل بامتلاك معلومات واسعة عن المنتج، مما يحسن رضاه.
- للتجار: تمنحهم حلولاً اقتصادية من خلال تسلسل ذكي وتحسين إدارة المخزون.
- للمصنّعين: يجمعون بيانات قيمة من العميل مباشرة، مما يساعد في تطوير تصميم المنتج وتقليل المخاطر والالتزام التنظيمي.
- للحوكمة والمشرّعين: تساهم في “تصفير البيروقراطية (Eliminating Bureaucracy)” من خلال تحليلات معمقة للعمليات والاستفادة من التقييمات لتطوير الخدمات.
الخلاصة…
إن الاستراتيجية في تجربة العميل هي الاختيار الذي يحدد مصير مؤسستك. لم تعد مشاريع تحسين تجربة العميل مجرد أنشطة تسويقية، هي اليوم قلب الاستراتيجية ويجب أن تكون مرنة، وقابلة للمراجعة الدائمة عند نقطة الانعطاف الاستراتيجي.
تذكّر دائماً: لكي تنجح في عالم عدم اليقين، يجب أن تضمن أن كل خطوة تخطوها في رحلة العميل تخدم الغرض الأسمى لشركتك وتنعكس إيجاباً ومباشراً على أرباحك. واليوم، ومع أدوات مثل الذكاء الاصطناعي، أصبح بإمكانك أن تصمم مستقبلك الاستراتيجي وتجربة عملائك بذكاء وسرعة فائقة. فماذا تنتظر للبدء في دمج رحلات عملائك مع اختيارات شركتك الكبرى؟
الأسئلة الشائعة
ما هي الاستراتيجية في تجربة العميل؟
هي فن تخصيص الموارد واستغلالها بأفضل شكل ممكن للنمو بمستقبل الشركة والحفاظ على استمرارية أعمالها. أي هي عملية مستمرة وليست ثابتة.
ما هي المستويات الثلاثة لـ الاستراتيجية في تجربة العميل؟
استراتيجية الشركة، استراتيجية الأعمال، والاستراتيجية التشغيلية.
استلهمنا مقالنا هذا من إحدى جلسات المنصة بعنوان “مفاهيم في استراتيجيات تجربة العميل دراسة حالة (تيك تريسر)”. استضفنا فيها الخبيرَين: أ. عبدالله؛ Director Business Strategy، وأ. خالد رومية؛ CEO & CO- Founder، ومحاورهما أ. محمود عبدربه؛ مؤسس منصّة تعلّم كتابة تجربة المستخدم بالعربية.
لمعرفة المزيد من التفاصيل والتعمّق أكثر في الفهم وسماع الشروحات التفصيلية والأمثلة، يمكنك مشاهدة الجلسة على قناتنا على يوتيوب.

